سورة فاطر - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
{الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والارض} أي موجدهما من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه، فالفطر الإبداع، وقال الراغب: هو إيجاده تعالى الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال.
وأخرج عبد بن حميد. والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهما عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها يعني ابتدأتها؛ وأصل الفطر الشق، وقال الراغب: الشق طولًا ثم تجوز فيه عما تقدم وشاع فيه حتى صار حقيقة أيضًا، ووجه المناسبة أن السماوات والأرض والمراد بهما العالم بأسره لكونهما ممكنين والأصل في الممكن العدم كما يشير إليه قوله تعالى: {كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» وصرح بذلك فلاسفة الإسلام قال رئيسهم: الممكن في نفسه ليس وهو عن علته أيس كان العدم كامن فيهما وبإيجادهما يشقان ويخرج العدم منهما.
وقيل في ذلك: كأنه تعالى شق العدم بإخراجهما منه، وقيل: لا مانع من حمله على أصله هنا ويكون إشارة إلى الأمطار والنبات فكأنه قيل: الحمد لله فاطر السموات بالأمطار وفاطر الأرض بالنبات وفيه نظر ستأتي الإشارة إليه قريبًا، وقوله تعالى: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلًا} على القولين يحتمل أن يكون معناه جاعل الملائكة عليهم السلام وسائط بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالته سبحانه بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه عز وجل يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه كالأمطار والرياح وغيرهما وهم الملائكة الموكلون بأمور العالم، وهذا أنسب بالقول الثاني لكن يرد عليه أنه لا معنى لكون الأمطار شاقة للسماوات، وقال الإمام: إن الحمد يكون على النعم ونعمه تعالى عاجلة وآجلة، وهو في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر ودليله {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الارض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2] وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} [سبأ: 3] والحمد في هذه السورة إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ودليله جاعل الملائكة رسلًا أي يجعلهم سبحانه رسلًا يتلقون عباد الله تعالى كما قال سبحانه تتلقاهم الملائكة فيجوز أن يكون المعنى الحمد لله شاق السماوات والأرض يوم القيامة لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض وجاعل الملائكة رسلًا في ذلك اليوم يتلقون عباده، وعليه فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى لأن قوله تعالى: {كما فعل بأشياعهم} [سبأ: 54] بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب، ولما ذكر سبحانه حالهم ذكر حال المؤمنين وبشرهم بإرسال الملائكة إليهم وأنه تعالى يفتح أبواب الرحمة لهم انتهى، وفيه من البعد ما فيه، و{فَاطِرَ} صفة لله وإضافته محضة قال أبو البقاء: لأنه للماضي لا غير، وقال غيره: هو معرف بالإضافة إذ لم يجر على الفعل بل أريد به الاستمرار والثبات كما يقال زيد مالك العبيد جاء أي زيد الذي من شأنه أن يملك العبيد جاء، ومن جعل الإضافة غير محضة جعله بدلًا وهو قليل في المشتقات، وكذا الكلام في {جَاعِلِ وَرُسُلًا} على القول بأن إضافته غير محضة منصوب به بالاتفاق، وأما على القول الآخر فكذلك عند الكسائي، وذهب أبو علي إلى أنه منصوب ضمر يدل هو عليه لأن اسم الفاعل إذا كان عنى الماضي لا يعمل عنده كسائر البصريين إلا معرفًا باللام، وقال أبو سعيد السيرافي: اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يعمل بالثاني لأنه بإضافته إلى الأول تعذرت إضافته إلى الثاني فتعين نصبه له.
وعلل بعضهم ذلك بأنه بالإضافة أشبه المعرف باللام فعمل عمله هذا على تقدير كون الجعل تصييريًا أما على تقدير كونه إبداعيًا فرسلًا حال مقدرة، وقرأ الضحاك. والزهري {فَطَرَ جَعَلَ} فعلًا ماضيًا ونصب ما بعده قال أبو الفضل الرازي: يحتمل أن يكون ذلك على إضمار الذي نعتًا لله تعالى أو على تقدير قد فتكون الجملة حالًا.
وأنت تعلم أن حذف الموصول الاسمي لا يجوز عند جمهور البصريين، وذهب الكوفيون. والأخفش إلى إجازته وتبعهم ابن مالك وشرط في بعض كتبه كونه معطوفًا على موصول آخر ومن حجتهم {آمنا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا} [العنكبوت: 64] وقول حسان:
أمن يهجو رسول الله منكم *** وينصره ويمدحه سواء
وقول آخر:
ما الذي دأبه احتياط وحزم *** وهواه أطاع يستويان
واختار أبو حيان كون الجملة خبر مبتدأ محذوف أي هو فطر. وقرأ الحسن {جَاعِلِ} بالرفع على المدح وجر {الملائكة} وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو {جَاعِلِ} بالرفع بلا تنوين ونصب {الملائكة} وخرج حذف التنوين على أنه لالتقاء الساكنين ونصب الملائكة إذا كان جاعل للمضي على مذهب الكسائي. وهشام في جواز أعمال الوصف الماضي النصب. وقرأ ابن يعمر. وخليد {جَعَلَ} فعلًا ماضيًا {الملائكة} بالنصب وذلك بعد قراءته {فَاطِرَ} كالجمهور كقراءة من قرأ {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ اليل سَكَنًا} [الأنعام: 96] وفي الكشاف قرئ {فَطَرَ وَجَعَلَ} كلاهما بلفظ الفعل الماضي.
وقرأ الحسن: وحميد بن قيس {رُسُلًا} بسكون السين وهي لغة تميم، وقوله تعالى: {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ} صفة لرسلًا وأولو اسم جمع لذو كما إن أولاه اسم جمع لذا، ونظير ذلك من الأسماء المتمكنة المخاض، قال الجوهري: هي الحوامل من النوق واحدتها خلفة، و{أَجْنِحَةٍ} جمع جناح صيغة جمع القلة ومقتضى المقام أن المراد به الكثرة.
وفي البحر قياس جمع الكثرة فيه جنح فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملًا في القليل والكثير، والظاهر أن الجناح بالمعنى المعروف عند العرب بيد أنا لا نعرف حقيقته وكيفيته ولا نقول إنه من ريش كريش الطائر.
نعم أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أن أجنحة الملائكة عليهم السلام زغبة، ورأيت في بعض كتب الإمامية أن الملائكة تزدحم في مجالس الأئمة فيقع من ريشها ما يقع وأنهم يلتقطونه ويجعلون منه ثيابًا لأولادهم.
وهذا عندي حديث خرافة، والكشفية منهم يؤولونه بما لا يخرجه عن ذلك، وقوله تعالى: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} الظاهر أنه صفة لأجنحة، والمنع من الصرف على المشهور للصفة والعدل عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة.
وقال الزمخشري: إنما لم تنصرف هذه الألفاظ لتكرار العدل فيها وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد من صيغ إلى صيغ آخر كما عدل عمر عن عامر وحزام عن حازمة وعن تكرير إلى غير تكرير ففيها عدلان وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها ألا تراك تقول مررت بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها. وتعقبه أبو حيان بأنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أربع وثلاثة وليس بصحيح لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة بل اشترطوا أن تكون الوصفية غير عارضة كما في أربع وأن لا يقبل تاء التأنيث أو تكون فيه كثلاث وثلاثة، وقال صاحب الكشف فيه: إن العدول عن التكرار لا يعتبر فيه للصيغة واعتبر في تحقق العدل ذلك ثم العدول عن الصيغة الأصلية لإفادة التكرر فلا عدولين بوجه، وبعد تسليم أن المعتبر في الوصف مقارنته لوضع المعدول فلا يضرب عروضه في المعدول عنه لا اتجاه للمنع ولا معول على السند وهو قول سيبويه على ما نقله الجوهري وهو المنصور على ما نبهت إليه انتهى. وتعقبه أيضًا «صاحب الفرائد» وصاحب التقريب بعروض الوصفية في المعدول عنه وعدمه في المعدول، لكن قال الطيبي: وجدت لبعض المغاربة كلامًا يصلح أن يكون جوابًا عنه وهو أن ثلاث مثلًا لا يخلو من أن يكون موضوعًا للصفة من غير اعتبار العدد أو لا يكون فإن كان الأول لم يكن فيه العدد والمقدر خلافه، وإن كان الثاني كان الوصف عارضًا لثلاث كما كان عارضًا لثلاثة فيمكن أن يقال إن هذه الأعداد غير منصرفة للعدل المكرر كالجمع وألفي التأنيث انتهى، وفيه ما لا يخفى.
وقال ابن عطية: إن هذه الألفاظ عدلت في حال التنكير فتعرفت بالعدل فهي لا تنصرف للعدل والتعريف وهذا قول غريب ذكر في البحر لبعض الكوفيين. وفي الكشاف هي نكرات يعرفن بلام التعريف تقول فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، وقيل: {مثنى} حال من محذوف والعامل فيه محذوف يدل عليه {بَعْدِهِ رُسُلًا} أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع، والمعول عليه ما تقدم، والمراد ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد حسب تفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون أو يسرعون بها حين يؤمرون، ويجوز أن تكون كلًا أو بعضًا لأمور أخر كالزينة فيما بينهم وكالارجاء على الوجه حياء من الله تعالى إلى غير ذلك، والمعنى أن من الملائكة خلقًا لكل واحد منهم جناحان وخلقًا لكل منهم ثلاثة أجنحة وخلقًا لكل منهم أربعة أجنحة، ولا دلالة في الآية على نفي الزائد بل قال بعض المحققين: إن ما ذكر من العدد للدلالة على التكثير والتفاوت لا للتعيين ولا لنفي النقصان عن اثنين.
وقد أخرج الشيخان. والترمذي عن ابن مسعود في قوله تعالى: {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} [النجم: 18] رأى جبريل له ستمائة جناح، والترمذي عن مسروق عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد له ستمائة جناح قد سد الأفق، وقال الزمخشري: مر بي في بعض الكتب أن صنفًا من الملائكة عليهم السلام لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بهما أجسادهم وجناحان يطيرون بهما في أمر من أمور الله تعالى وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله عز وجل.
والبحث عن كيفية وضع الأجنحة شفعًا كانت أو وترًا فيما أرى مما لا طائل تحته ولم يصح عندي في ذلك شيء ولقياس الغائب على الشاهد، قال بعضهم: إن المعنى إن في كل جانب لبعض الملائكة عليهم السلام جناحين ولبعضهم ثلاثة ولبعضهم أربعة وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد لما اعتدلت، وهو كما ترى.
وقال قوم: إن الجناح إشارة إلى الجهة، وبيانه أن الله تعالى ليس فوقه شيء وكل شيء سواه فهو تحت قدرته سبحانه كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الامين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] وقال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] وقال تعالى: {فالمدبرات أَمْرًا} [النازعات: 5] وهما جناحان وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة وفيهم من يفعله لا بواسطة فالفاعل بواسطة منهم من له ثلاث جهات ومنهم من له أربع جهات وأكثر، وهذا خلاف الظاهر جدًا ولا يحتاج إليه السني القائل بأن الملائكة عليهم السلام أجسام لطيفة نورية يقدرون على التشكل بالصور المختلفة وعلى الأفعال الشاقة وإنما يحتاج إليه أو إلى نحوه الفلاسفة وأتباعهم فإن الملائكة عندهم هي العقول المجردة ويسميها أهل الإشراق بالأنوار الظاهرة وبعض المتصوفة بالسرادقات النورية، وقد ذكر بعض متأخريهم أن لها ذوات حقيقية وذوات إضافية مضافة إلى ما دونها إضافة النفس إلى البدن فأما ذواتها الحقيقية فإنما هي أمرية قضائية قولية وأما ذواتها الإضافية فإنما هي خلقية قدرية تنشأ منها الملائكة اللوحية وأعظمهم إسرافيل عليهم السلام، وتطلق الملائكة عندهم على غير العقول كالمدبرات العلوية والسفلية من النفوس والطبائع، وأطالوا الكلام في ذلك وظواهر الآيات والأخبار تكذبهم والله تعالى الموفق للصواب.
{يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء} استئناف مقرر لما قبله من تفاوت الملائكة عليهم السلام في عدد الأجنحة ومؤذن بأن ذلك من أحكام مشيئته تعالى لا لأمر راجع إلى ذواتهم ببيان حكم كلي ناطق بأنه عز وجل يزيد في أي خلق كان كل ما يشاء أن يزيده وجب مشيئته سبحانه ومقتضى حكمته من الأمور التي لا يحيط بها الوصف، وقال الفراء. والزجاج: هذا في الأجنحة التي للملائكة أي يزيد في خلق الأجنحة للملائكة ما يشاء فيجعل لكل ستة أجنحة أو أكثر وروى ذلك عن الحسن، وكأن الجملة لدفع توهم عدم الزيادة على الأربعة.
وعن ابن عباس يزيد في خلق الملائكة والأجنحة ما يشاء، وقيل: {الخلق} خلق الإنسان و{مَا يَشَاء} الخلق الحسن أو الصوت الحسن أو الحظ الحسن أو الملاحة في العينين أو في الأنف أو في الوجه أو خفة الروح أو جعودة الشعر وحسنه أو العقل أو العلم أو الصنعة أو العفة في الفقراء أو حلاوة النطق، وذكروا في بعض ذلك أخبارًا مرفوعة والحق أن ذلك من باب التمثيل لا الحصر، والآية شاملة لجميع ذلك بل شاملة لما يستحسن ظاهرًا ولما لا يستحسن وكل شيء من الله عز وجل حسن.
{إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ} تعليل بطريق التحقيق للحكم المذكور فإن شمول قدرته تعالى لجميع الأشياء مما يوجب قدرته سبحانه على أن يزيد في كل خلق كل ما يشاؤه تعالى إيجابًا بينًا.


{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}
{مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} أي ما يطلقها ويرسلها فالفتح مجاز عن الإرسال بعلاقة السببية فإن فتح المغلق سبب لإطلاق ما فيه وإرساله ولذا قوبل بالإمساك والإطلاق كناية عن الإعطاء كما قيل أطلق السلطان للجند أرزاقهم فهو كناية متفرعة على المجاز.
وفي اختيار لفظ الفتح رمز إلى أن الرحمة من أنفس الخزائن وأعزها منالًا، وتنكيرها للإشاعة والإبهام أي شيء يفتح الله تعالى من خزائن رحمته أي رحمة كانت من نعمة وصحة وأمن وعلم وحكمة إلى غير ذلك مما لا يحاط به حتى أن عروة كان يقول كما أخرج ابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير عنه في ركوب المحمل هي والله رحمة فتحت للناس ثم يقول: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} الخ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي الرحمة المطر، وعن ابن عباس التوبة والمراد التمثيل، والجار والمجرور في موضع الحال لا في موضع الصفة لأن اسم الشرط لا يوصف {فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} أي فلا أحد يقدر على إمساكها {وَمَا يُمْسِكْ} أي أي شيء يمسك {فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ} أي فلا أحد يقدر على إرساله، واختلاف الضميرين لما أن مرجع الأول مبين بالرحمة ومرجع الثاني مطلق يتناولها وغيرها، وفي ذلك مع تقديم أمر فتح الرحمة إشعار بأن رحمته تعالى سبقت غضبه عز وجل كما ورد في الحديث الصحيح، وقيل المراد وما يمسك من رحمة إلا أنه حذف المبين لدلالة ما قبل عليه، والتذكير باعتبار اللفظ وعدم ما يقوى اعتبار المعنى في التلفظ.
وأيد بأنه قرئ {فَلاَ مُرْسِلَ لَهَا} بتأنيث الضمير {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد إمساكه {وَهُوَ العزيز} الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي من جملتها الفتح والإمساك {الحكيم} الذي يفعل كل ما يفعل حسا تقتضيه الحكمة والمصلحة، والجملة تذيير مقرر لما قبلها ومعرب عن كون كل من الفتح والإمساك وجب الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين، وما ادعى هذه الآية إلى الانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عما سواه عز وجل وإراحة البال عن التخيلات الموجبة للتهويش وسهر الليال.
وقد أخرج ابن المنذر عن عامر بن عبد قيس: قال أربع آيات من كتاب الله تعالى إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبع عليه وأمسى {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2] {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] وبعدما بين سبحانه أنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإطلاق أمر الناس قاطبة أو أهل مكة كما روى عن ابن عباس واختاره الطيبي بشكر نعمه عز وجل فقال تعالى:


{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)}
{آيات الله هُزُوًا واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} أي إنعامه تبارك وتعالى عليكم إن جعلت النعمة مصدرًا أو كائنة عليكم أن جعلت اسمًا أي راعوها واحفظوها عرفة حقها والاعتراف بها وتخصيص العبادة والطاعة وليها فليس المراد مجرد الذكر باللسان بل هو كناية عما ذكر، وعن ابن عباس وقد جعل الخطاب لمن سمعت اذكروا نعمة الله عليكم حيث أسكنكم حرمه ومنعكم من جميع العالم والناس يتخطفون من حولكم، وعنه أيضًا نعمة الله تعالى العافية، والأولى عدم التخصيص، ولما كانت نعم الله تعالى مع تشعب فنونها منحصرة في نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء نفى سبحانه أن يكون في الوجود شيء غيره سبحانه يصدر عنه إحدى النعمتين بطريق الاستفهام الذي هو لإنكار التصديق وتكذيب الحكم فقال عز وجل: {هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله} وهل تأتي لذلك كما في «المطول وحواشيه»، وقول الرضى: إن هل لا تستعمل للإنكار أراد به الإنكار على مدعي الوقوع كما في قوله تعالى: {أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين} [الإسراء: 40] ويلزمه النفي والإنكار على من أوقع الشيء كما في قولك أتضرب زيدًا وهو أخوك أي هل خالق مغاير له تعالى موجود لكم أو للعالم على أن {خالق} مبتدأ محذوف الخبر زيدت عليه {مِنْ} لتأكيد العموم و{غَيْرُ الله} صفة له باعتبار محله، وصحت الوصفية به مع إضافته إلى أعرف المعارف لتوغله في التنكير فلا يكتسب تعريفًا في مثل هذا التركيب، وجوز أن يكون بدلًا من {خالق} بذلك الاعتبار ويعتبر الإنكار في حكم النفي ليكون غير الله هو الخالق المنفي ولأن المعنى على الاستثناء أي لا خالق إلا الله تعالى والبدلية في الاستثناء بغير إنما تكون في الكلام المنفي وبهذا الاعتبار زيدت {مِنْ} عند الجمهور وصح الإبتداء بالنكرة، وكذا جوز أن يكون فاعلًا بخالق لاعتماده على أداة الاستفهام نحو أقائم زيد في أحد وجهيه وهو حينئذ ساد مسد الخبر. وتعقبه أبو حيان بقوله فيه نظر وهو أن اسم الفاعل أو ما يجري مجراه إذا اعتمد على أداة الاستفهام وأجرى مجرى الفعل فرفع ما بعده هل يجوز أن تدخل عليه من التي للاستغراق فيقال هل من قائم الزيدون كما تقول هل قائم الزيدون، والظاهر أنه لا يجوز ألا ترى أنه إذا أجرى مجرى الفعل لا يكون فيه عموم بخلافه إذا دخلت عليه من ولا أحفظ مثله في لسان العرب، وينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا إلا بسماع من كلامهم، وفيه أن شرط الزيادة والأعمال موجود ولم يبد مانعًا يعول عليه فالتوقف تعنت من غير توقف. وفي الكشف لا مانع من أن يكون {غَيْرِ} خبرًا.
ومنعه الشهاب بأن المعنى ليس عليه، وقرأ ابن وثاب. وشقيق. وأبو جعفر. وزيد بن علي. وحمزة. والكسائي {غَيْرِ} بالخفض صفة لخالق على اللفظ، وهذا متعين في هذه القراءة ولأن توافق القراءتين أولى من تخالفهما كان الأظهر في القراءة الأولى كونه وصفًا لخالق أيضًا، وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي. {غَيْرِ} بالنصب على الاستثناء، وقوله تعالى: {يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض} بالمطر والنبات كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب لا صفة {خالق} باعتبار لفظه أو محله، قال في الكشف: لأن المعنى على التقريع والتذكير بما هم معترفون به فكأنه قيل: هل من خالق لتلك النعم التي أمرتم بذكرها أو مطلقًا وهو أولى وتدخل دخولًا أوليًا {غَيْرُ الله} ثم تمم ذلك بأنه يرزقكم من السماء والأرض وذلك أيضًا يقتضي اختصاصه تعالى بالعبادة كما أن الخالقية تقتضي ذلك، وفيه أن الخالق لا يكون إلا رازقًا ولو قيل هل من خالق رازق من السماء والأرض غير الله يخرج الكلام عن سننه المقصود.
وجوز أن يكون {خالق} فاعلًا لفعل مضمر يفسره المذكور والأصل هل يرزقكم خالق و{مِنْ} زائدة في الفاعل، وتعقب بأن ما في النظم الجليل إن كان من باب هل رجل عرف فقد صرح السكاكي بقبح هذا التركيب لأن هل إنما تدخل على الجملة الخبرية فلابد من صحتها قبل دخول هل ورجل عرف لا يصح بدون اعتبار التقديم والتأخير لعدم مصحح الإبتدائية سواه وإذا اعتبر التقديم والتأخير كان الكلام مفيدًا لحصول التصديق بنفس الفعل فلا يصح دخول هل عليه لأنها لطلب التصديق وما حصل لا يطلق لئلا يلزم تحصيل الحاصل ولاحتمال أن يكون رجل فاعل فعل محذوف قال بالقبح دون الامتناع وإن كان من باب هل زيد عرف فقد صرح العلامة الثاني السعد التفتازاني بأنه قبيح باتفاق النحاة وأن ما ذكره صاحب المفصل من أن نحو هل زيد خرج على تقدير الفعل تصحيح للوجه القبيح البعيد لا أنه شائع حسن غاية ما في الباب أن سبب قبحه ليس ما ذكره في قبح هل زيد عرف عند السكاكي لعدم تأتيه فيه بل السبب أن هل عنى قد في الأصل وأصله أهل كقوله:
أهل عرفت الدار بالغرتين ***
وترك الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الاستفهام فأقيمت هي مقام الهمزة وتطفلت عليها في الاستفهام، وقد من لوازم الأفعال فكذا ما هي عناها، ولم يقبح دخولها على الجملة الاسمية التي طرفاها اسمان لأنها إذا لم تر الفعل في حيزها تتسلى عنه ذاهلة وهذا بخلاف ما إذا رأته فإنها حينئذ تتذكر عهودًا بالحمى وتحن إلى الألف والمألوف وتطلق معانقته ولم ترض بافتراق الاسم بينهما، ويعلم من هذا أنه لا فرق عند النحاة بني هل رجل عرف وهل زيد عرف في القبح لذلك.
وأجاب بعضهم بأن مجوز هذا الوجه الزمخشري ومتابعوه وهو لا يسلم ما ذكر لأن حرف الشرط كان مثلًا ألزم للفعل من هل لأنه لا يجوز دخوله على الجملة الاسمية التي طرفاها اسمان كما دخلت عليها هل وقد جاز بلا قبح عمل الفعل بعده على شريطة التفسير كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك} فيجوز في هل بالطريق الأولى، وقيل: يجوز أن يكون {يَرْزُقُكُمْ} إلخ مستأنفًا في جواب سؤال مقدر تقديره أي خالق يسأل عنه، وأن يكون هو الخبر لخالق، ولا يخفى على متأمل أن ما نقل عن الكشف قاض رجوحية هذه الأوجه جميعها فتأمل. وفي الآية على ما هو الأولى في تفسيرها وإعرابها رد على المعتزلة في قولهم: العبد خالق لأفعاله ونصرة لأهل السنة في قولهم لا خالق إلا الله تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} استئناف مقرر للنفي المفهوم مما تقدم قصدًا، ولم يجوز جار الله أن يجعل صفة لخالق كما جعل {يَرْزُقُكُمْ} صفة له حيث قال: ولو وصلت جملة {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} كما وصلت {يَرْزُقُكُمْ} لم يساعد عليه المعنى لأن قولك هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق غير مستقيم لأن قولك هل من خالق سوى الله إثبات لله تعالى فلو ذهبت تقول ذلك كنت مناقضًا بالنفي بعد الإثبات اه، وبين صاحب الكشاف وجه المناقضة على تقدير أن يكون غير الله صفة بأن الكلام مسوق لنفي المشاركة في الصفة المحققة أعني الخلق فقولك هل من خالق آخر سوى الله إثبات لله تعالى ونفى المشارك له فيها ثم وصف الآخر بانحصار الإلهية فيه يكون لنفي خالقيته دون تفرد بالإلهية والتفرد بالإلهية مع مغايرته لله تعالى متناقضان لأن الأول ينفيه تعالى عن ذلك علوا كبيرًا والثاني يثبته مع الغير جل عن كل شريك ونقص، ثم قال: والتحقيق في هذا أن هل لإنكار ما يليها وما تلاه إن كان من تتمته ينسحب عليه حكم الإنكار بالبقية وإلا كان مبقي على حاله نفيًا وإثباتًا، ولما كان الكلام في الخالقية على ما مر لم يكن الوصفان أعني تفرد الآخر بالإلهية ومغايرته للقيوم الحق مصبًا له وهما متناقضان في أنفسهما على ما بين فيلزم ما ذكره جار الله لزومًا بينًا اه، وقد دفع بتقريره ذلك كثيرًا من القاعل والقيل بيد أنه لا يخلو عن بحث، ويمكن تقرير المناقضة على تقدير الوصفية بوجه أظهر لعله لا يخفى على المتأمل، ويجوز أن يكون المانع من الوصفية النظم المعجز وحاكمه الذوق السليم والكلام في ذلك طويل فتأمل، والفاء في قوله تعالى: {فأنى تُؤْفَكُونَ} لترتيب إنكار عدولهم عن التوكيد إلى الإشراك على ما قبلها كأنه قيل: وإذا تبين تفرده تعالى بالألوهية والخالقية والرازقية فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك، وقوله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8